Sunday, February 19, 2017

الصحة والرياضة في حياة الأديب والمربي خليل السكاكيني


                              

عصام الخالدي                     
      تفتح يوميات الأديب والمربي خليل السكاكيني (1878- 1953) أمامنا نافذة نستطيع من خلالها اكتشاف حقائق عن علاقة المواطن بالقوة والتمرين البدني، وعن طبيعة الشعور بالرجولة في المجتمع الفلسطيني في بداية القرن العشرين. وقد شهد حقل الثقافة في النصف الأول من القرن العشرين ظاهرة فريدة من نوعها وهي اهتمام الأديب والمربي خليل السكاكيني بالتمارين البدنية ووسائل صحية أخرى مثل الاستحمام بالماء البارد والتدليك . أدرك السكاكيني أهمية الرياضة كوسيلة مهمة من اجل نشاطٍ بدني وذهني يومي متواصل ، ومن أجل الاسترخاء وإزالة التوترات الناجمة عن صعوبة الحياة ، كما واستطاع أن يحوّل هذا الوعي والقناعات لأهمية وفوائد هذه الوسائل الصحية إلى ممارسة يومية تصاحبها عزيمة وإرادة قوية. ولم يتوقف عند ذلك بل سعى إلى نقل "عدوى" التمرين إلى ذويه مثل أخيه وزوجته وابنه من خلال إقناعهم بفوائد التمرين . كما ومن المعروف أنه أولى اهتماماً بالتربية البدنية خلال عمله في حقل التعليم ، حيث جعل مادة التربية البدنية من المواد الأساسية ضمن المنهاج الدراسي بعد تأسيسه للمدرسة الدستورية عام 1909. وهذا كله نادراً ما لا نراه بين مثقفينا وأدباءنا في الوقت الحاضر ، أي بعد ما يقارب القرن من الزمن.
  وأكثر ما ميز السكاكيني عن الكثير من الذين عاصروه هو جمعه بين القوة الجسدية والمعنوية والذهنية . ولا نبالغ بالقول أنه كان سباقاً لزمانه بما يتعلق بوعيه لفوائد الرياضة وبممارسته المستمرة لها وبقناعته في تأثير الجسد على العقل والعقل على الجسد . 
  لقد أنار لنا السكاكيني في مذكراته كثيراً من الحقائق عن تجربته الصحية الذاتية والخاصة التي كانت لا تنفصل عن الأفكار المتطورة المتجاوزة لأفكار المجتمع الذي كان يعيش به هذا المثقف الحديث في مجتمع تقليدي . يكتب فيصل دراج في مقدمة كتاب يوميات خليل السكاكيني "ذلك أن السكاكيني كان يقول بأفكار متطورة تتجاوز مجتمعه. لهذه الأسباب ، تمثل مذكراته وثيقة تاريخية ثمينة ، تضيء وجوها كثيرة من فلسطين الماضية. "[1]
     من المعروف أن الرجولة في فترة شباب السكاكيني كانت تتمثل في امتلاك صفات ملائمة للرجل مثل القوة والعضلات المفتولة وقوة الشخصية والشوارب المعقوفة ، حيث كانت عاملاً من العوامل التي جعلت السكاكيني يهتم بالتمارين الرياضية التي تعمل على إبراز القوة وجمال وقوة الجسد ، ولكن العامل الأكبر في اهتمامه بالرياضة هو طبيعة بنيته الجسدية القوية التي ولدت معه ، وكما يقول "لم يكن في المدرسة احد أقوى مني جسما، فكنا في أوقات الفراغ نتصارع فكنت أصارع أربعة أو خمسة معا، ولم يكن احد يستطيع أن يزحزح قدمي عن الأرض، ولذلك كنت ذا نفوذ بينهم...".[2] هذه القوة جعلته يشعر بالرجولة عند بلوغه سن الشباب ولازمه هذا الإحساس لوقت طويل.  
   
     أيضا كانت الرياضة والاغتسال دائما متنفسا له في أيامه "السعيدة" "والتعيسة"  بالإضافة إلى كونها وسيلة هامة من أجل التعبير عن الذات والرجولة التي كان دائما يتباهى بها . وهناك أيضا عامل آخر هو أن الرياضة والاغتسال بالماء البارد هي بالنسبة له نوع من جلد الذات، فكما يشير سليم تماري أن السكاكيني "كان عظيم الإعجاب بجسمه وينفق الوقت الطويل في الاغتسال . على ما يبدو في مذكراته ذا توجهات جنسية غامضة ومكبوتة . وتزخر فقرات يومياته بتجريح الذات وبنوبات الغم واليأس . ولعل تعلقه المفرط بالاستحمام بالماء البارد (صيفا وشتاء) ، وابتعاده عن المناسبات الاجتماعية يصلان إلى درجة جلد الذات." [3]
   كان السكاكيني منذ طفولته أيضا مولعاً بالماء والنظافة حيث يذكر في مذكراته "فلم يكن ألذ عندي وادعى لسروري من أن تدعوني أمي لتحممني".[4]  وفيما بعد حوّل السكاكيني هذا الاستحمام من الماء الساخن إلى الماء البارد ، بحيث اصبح بالإضافة إلى التمارين البدنية عادة يومية اتبعها حتى نهاية حياته ، فكان دائما يبدأ يومياته بالعبارات التالية "استحممت بالماء البارد" و "استحممت ولعبت" و "لعبت ..." ، وفي بعض الأحيان يذكر الوسيلة الثالثة وهي التمسيد (التدليك).

 في الولايات المتحدة  
     في احدى رسائله إلى زوجته من مدينة نيويورك في عام  1908 يصف لها السكاكيني برنامجه اليومي (عندما كان في القدس) والذي كان يحوي الاستحمام بالماء البارد والتمارين البدنية صباحا:
"تأملي في ما كنا عليه ، وفي ما صرنا إليه.
كنت سعيداً كل السعادة ، كنت استعلي على الرؤساء والأساتذة ، فلا يقابلوني إلا باحترام ، وكانوا يقدرونني قدري ، كنت سعيداً في بيتي : أقوم صباحاً فأستحم بالماء البارد ، وألعب ألعابا رياضية مختلفة تكسبني قوة ونشاطاً ، ثم أتناول فطوري ، ثم أجلس وراء مكتبي أدخن بنارجيلتي وأقرأ وأكتب ، ثم أذهب إلى دروسي فأمشي في الهواء النقي والشمس ساطعة ، ولا ألقى أحداً في طريقي إلا سلم علي وابتسم لي.
كنت أعلم في غرف واسعة ، وبين درس وآخر كنا نخرج إلى ساحة اللعب فنلعب ألعابا مختلفة [تمارين بدنية] تجديداً للنشاط ، وعند الظهر أرجع إلى البيت فأتغدى ثم أنام ، وبعد النوم استحم مرة ثانية وأدخن ، ثم أرجع إلى دروسي."[5]

   وفي احدى رسائله (من نيويورك) إلى صديقه ورفيق صباه داود الصيداوي في تلك الفترة يكتب السكاكيني واصفا موقف يظهر فيه قوته الفائقة :

"على ذكر الصحة والقوة ، جمعتني وبعض الشبان ليلة فأخذوا يلعبون العابا ويتحرش بعضهم ببعض ، وكلهم اكبر من ي جثة واطول قامة واثقل وزنا ، ولعلهم استخفوا بي في أول الأمر ، فشاركتهم في العابهم فحملت احمالا ولعبت العابا لم يقدروا أن يجاورني فيها. ثم اخذت في الصراع معهم فكنت ابيح لهم ان يمسكوني حيث شاءوا فأجمع بعضي على بعض فتتلوى أيديهم كما تلتوي الاغصان الغضة ، وتنقصف ارجلهم ، وتنثني قامتهم ، كأن عظامهم من خيزران. ثم ابيح لا قواهم أن يجرب أن "يكمشني" حيث شاء ، في رجلي أو صدري أو ذراعي حتى وجهي ، فلم يستطع أن يجد في مقمشا. وقد تدرجت في الهياج حتى شعرت أن فيَ قوة ألوي بها الحديد، فما كان من احدهم إلا أن قال "أراك تصلح للصراع" فتذكرت قول "تنسون" الشاعر الإنكليزي: "فيَ قوة عشرة رجال لأن قلبي طاهر". لو رأيتني يا داود ماشيا في الطريق لحسبتني كرة مدفع."[6]
     كان لدى السكاكيني اختلاف بالشعور بالمتعة بين أدائه للاستحمام والتمارين في الوطن وفي الغربة ، فمن المعروف أنه كان يعاني من الحنين إلى الوطن أثناء وجوده في نيويورك حتى أنه وكما يذكر برغم شعوره بالمتعة في أداء كل هذه الوسائل الصحية إلا أنه لم يكن يشعر بالسرور كما كان يشعره بحماماته والعابه في القدس. [7]
     لقد عانى السكاكيني الكثير من صعوبات الحياة أثناء وجوده في أمريكا وكان الاستحمام والألعاب بمثابة وسائل فعالة استخدمها من أجل التغلب على معاناته من صعوبات الحياة وحنينه المستمر إلى الوطن وخاصة إلى حبيبته سلطانة ففي أحد يومياته يصف فائدة هذا الاستحمام واللعب وكيف استطاع من خلالهما أن يواجه صعوبة الحياة الناجمة عن قسوة الغربة "لولا الاستحمام واللعب لدببت على العصا. لم يبق من آثار سعادتي سواهما ... قد أنام في المساء وقد مللت الحياة وأقوم صباحا والدموع في عيني ، ومع ذلك لا أرى نفسي إلا ذاهبا إلى غرفة الحمام ، ثم ألعب العابي وفكري شارد وخواطري مشغولة. "[8]
والذي يثير الإعجاب أن السكاكيني كان يعي جيدا أن هذه التمارين البدنية لها انعكاساتها ليس على الصحة فقط ، بل وعلى النفس ، فهي أيضا وسيلة من أجل إزالة التوترات ومن أجل الاسترخاء: "كان يوسف[اخوه] جالساً وراء الطاولة متغيظاً من الحالة التي وصلنا إليها ، فقلت له: قم نتصارع فأبى ، فلم أتركه حتى قام وتصارعنا حتى صار العرق يتصبب من أجسادنا ، فتتاركنا ، وقد انفتا غضب يوسف وسكن غيظه.  ثم استلقينا في الفراش.[9]
    اصبح الاستحمام والتمارين البدنية التي كان يستخدمها السكاكيني بمثابة عادة يومية بالنسبة إليه صعب الاستغناء عنها لتصبح فيما بعد (صديقه الحميم) تلازمه في كل الأوقات: "أبطأت في القيام إلى الساعة السابعة ، فاستحممت ومسدت جسدي ولعبت ألعابي ، لولا مواظبتي على ذلك لكنت مثل الخرقة البالية . واحمد الله أن هذه العادة مستحكمة مني إلى درجة أني أزاولها بدون فكر ، ولذلك لم أمتنع عنها حتى في أشد أيام حزني وفي إبان شقائي."[10] ثم يضيف ذاكراً أهمية نظامه الصحي على حياته (في الغربة):"..... ذهبت علمت تلميذي الأرمني فدفع لي ريالين ، وقد بقي له عندي درس سأعطيه إياه يوم الأحد صباحا، رجعت إلى الغرفة وأنا أحس بقوة في جسدي عظيمة . إذا كنت كذلك وحياتي كلها هموم وأكدار ، فكيف لو كنت ناعم البال رضيا؟ والفضل في ذلك راجع إلى معيشتي الحسنة ، إلى استحماماي وألعابي وتنفسي المنظم وعافي."[11]
  كان السكاكيني يدخن النرجيلة والغليون بعض الأحيان ، ومن المحتمل أنه كان لا يرى اضرار للنرجيلة مقارنة بالسجائر ، ففي أحد يومياته يذكر أنه امتنع عن التدخين . [12]  وفي آن واحد كان يشعر بالغيرة على أخيه يوسف وينتقده لإفراطه في التدخين "سهر عندنا يوسف غرزوزي . قبل النوم تحادثت مع يوسف في وجوب اعتداله في التدخين واقتصاده في المصروف ، والمعيشة بالتعقل والتفكير. "[13] وكان لدى السكاكيني رغبة دائمة في أن يقتدي أخوه يوسف به فيقول "استحممت ولعبت . كنت أقدّر أن تسري عدوى الاستحمام واللعب والعناية بالصحة والشباب والجمال إلى أخي يوسف ، ولكن كأنني وإياه على طرفي نقيض ، ولذلك فإنني دائما أخاف عليه ... "[14]
    ولم يقف حب نقله عدوى الاعتناء بالصحة إلى يوسف فقط بل تعداه ليشمل الأصدقاء أيضا حيث يكتب في مذكراته".... فمررت على الخواجا جورج فوجدته لابساً ثيابه ، وقد أشربته أمس وأول أمس حب الرياضة فأخذ يلعب على الكراسي كما لعبت مرة أمامه. إذا استتب لي العمل في هذه البلدة أشربته أفكاري ومبادئي شيئا بعد شيء ، في مقدمتها محبة الطبيعة والعناية بالصحة. [15]
  كان السكاكيني دائما تواقا في استغلال كل الفرص من اجل القيام بنشاط رياضي يكون له انعكاساته الإيجابية على جسده "....ثم قمنا وجئنا إلى غرفة الخواجا جرجي وهناك أخذنا نتبارى في حمل الأثقال.[16]...... ثم خرجنا إلى فسحة على جانب الشلالات فوجدنا هناك بعض قضبان من الشجر ، فأخذ كل منا قضيبا وجعلنا نلعب بالسيف نحو ساعة في الهواء النقي ، أينما كنت أول ما أحرص عليه هو الاستفادة من ذلك الوسط ، فإذا كنت في وسط صحي اغتنمت الفرصة للاعتناء بصحتي ، وإذا صحبت رجل قوة وبأس روضت معه ما فيّ من تلك الأميال ...." [17]
   من المعروف أن للتدليك فائدة كبيرة على الجسم فهو يحسن من أداء عمل المفاصل والعضلات وينشط الدورة الدموية ، وكما ذُكِر سابقاً أن السكاكيني كان يمارس أيضا التمسيد (التدليك) ففي احدى يومياته يذكر كيف استطاع أن يتبع في استحماماته طريقة لم يتبعها من قبل وهي تجسيد جسده ورقبته وصدره وبطنه ويديه ورجليه ، وقد رأى لهذه الطريقة نفعاً كبيرا في تليين عضلاته وأمعائه ، بحيث خلص بها من القبض الذي كان يستنزف دمه. [18]

العمل في المصنع
   كان للقوة التي كان يتمتع بها السكاكيني دورا هاما في تحمله مشاق العمل البدني داخل مصنع الورق في ولاية "مين" شمال شرقي الولايات المتحدة ، بحيث أنه في كثير من الأحيان كان يمارس الاستحمام فقط بعد الاستيقاظ بدون العاب ، حيث رأى في هذا العمل بديلا للتمارين البدنية التي كان يقوم بها كل صباح . ففي احد يومياته يصف السكاكيني كيف كان العمال يأتون إلى العمل مسترخين وانين من انعكافهم على انغماسهم في الشرب والشهوات . وأما هو فقد كان يصرف وقته في غرفته ، يأوي إلى فراشه في أول الليل وينام في النهار أيضا بعد الظهر ويستحم في الصباح ، ولذلك بينما كان العمال متثاقلين يتثاءبون من وقت إلى آخر كان هو يروح ويجيء بكل نشاط. وكان يشتغل بسرور ليس كأنه يشتغل ولكن كأنه يلعب ألعابا رياضية. [19]
   كان السكاكيني يعتبر أن هذا العمل الشاق في المصنع بمثابة ترويض جسدي له حيث يقول :

استحممت بعد نهاية الشغل وذهبت فتعشيت. أخذت من الخواجا جورج ريالاً ونصفا ولقيت صاحب المنزل في الطريق فدفعنها له أجرة  غرفتي عن الأسبوع الماضي ، فقال: أنا أفتكر أن أدبر لك شغلا آخر ككاتب ، فقلت له : إني أحصل على مثل ذلك وأكثر، العمال أحق مني به . فقال :أكثرهم أميون لا يعرفون القراءة، فانتعشت وقررت أن أشتغل أسبوعاً أو أسبوعين ، فإذا لم أحصل على هذا المركز أكون على الأقل روضت جسدي رياضة كبيرة [في المصنع] واستغنيت عن الناس. [20]

رغم قوته إلا أنه كان صغير القامة مقارنة مع عمال ذلك المصنع فهو لم يستطع أن يجاريهم في قوتهم ، كما أن حمولة رزم الورق تفوقت على مقدرته البدنية آنذاك:
"استحممت وخرجت فأفطرت ، ثم ذهبت إلى المعمل . كان العمل اليوم شاقا جدا؛ كنا نحمل الرزم من قطار إلى قطار على أكتافنا تحت الشمس ، كانت الرزم كبيرة وثقيلة. لم أكن أستطيع أن أطوقها بيدي ، وكنت أشتغل مع عمال طوال القامات كبار الأجسام ، فلما كنا نجيء إلى الرزم لنحملها يحملون الصغيرة ويتركون الكبيرة. ما كدنا نشتغل قليلاً حتى تلاشت قوتي واسترخت مفاصلي، ولكن كابرت على نفسي وأثرت حماستي ، فكنت أشتغل ليس بقوة جسدي ولكن بحماسة صدري كما تهمز الحصان الذي أنهكه التعب فيجري ليس عن قوة ، ولكن عن هياج أعصابه من ألم المهماز. "[21]

    أقلع خليل السكاكيني إلى نيويورك في تشرين الأول 1907 ، وعاد في أيلول 1908 ، وفورا بعد عودته يكتب في مذكراته عن مباراة كرة قدم حضرها في القدس في تشرين الثاني عام 1908 "... بعد الظهر اخذت الضابط الدمشقي سعيد افندي وإسعاف النشاشيبي وذهبنا إلى ساحة اللعب التي تخص مدرسة المطران لنحضر مغالبة تجري بين مدرسة اليهود المتنصرين والكلية الإنجليزية . وكانوا قد ابتدأوا اللعب فسر الضابط لما رأى من انتباههم ونظامهم. ورأينا رأي العين ساحات اللعب . "[22]

المدرسة الدستورية  
في عام 1909 أسس خليل السكاكيني المدرسة الدستورية في القدس وقد نهج أسلوب خاص بالتعليم وهو الخلو من الدرجات ومنع العقاب والتركيز على الموسيقى والرياضة.[23]  ويعود السبب الرئيسي لذلك إلى قناعته بأهمية الرياضة والتمارين البدنية على الجسد والعقل ، وممارستها بشكل يومي وجعلها جزء من نمط حياته. وبعد مضي عام ونصف على تأسيس مدرستي "الدستورية" يشير السكاكيني إلى أن احدى مزايا "الدستورية" هي أنها اهتمت بالألعاب الرياضية والحركات العسكرية ، "وقد كَلفت احد الضباط للقيام بذلك ، بل تنوي أن تدخل المصارعة والملاكمة واستعمال السلاح في مناهجمها في المستقبل القريب ان شاء الله." [24] ويذكر السكاكيني احد أسباب انقطاعه عن الكتابة لنحو خمسة اشهر لانهماكه في امر المدرسة - دار المعلمين .... "اشربت التلامذة روح النشاط وعودتهم الاستحمام بالماء البارد وحملت احد الأساتذة يمرنهم على حركات رياضية كل صباح قبل الفطور." [25]
   وحول فلسفته في الرياضة [المدرسية] يكتب "في ساحات الرياضة تتعلم الناشئة الإقدام والبسالة والثبات والانفة ويطبعون على حب المغالبة والمسابقة. في ساحات الرياضة تشرق الوجوه وتتناسب أعضاء الجسد وبذلك يتم الجمال. في ساحات الرياضة تنمو العقول وترهف الأذهان وتشحذ القرائح .... ، أول ما يجب الاعتناء به هو هذه الألعاب الرياضية." [26]

ابنه سري

    وكما ذكِر سابقاً أن كان له تأثيرا على ذويه وخاصة ابنه سري "احب أن يولع سري بالألعاب الرياضية على اختلاف ضروبها وأن يمشي على الأسلوب الذي اتبعته منذ نشأتي وكنت ابشر به دائما . الألعاب الرياضية ، والاستحمام بالماء البارد ، والطعام المغذي ، والمطالعة - هذا هو الأسلوب الذي سيتغلب على العالم كله. " [27] "وليس ادعى لسعادتي من ان أرى ابني بثياب اللعب ، عاري الساعدين والساقين، مكشوف الرأس ، يثب على درج جامعة كولومبيا في نيويورك ، والهواء يعبث بشعره الذهبي ." [28]
وفي احدى رسائله إلى سري يكتب "يدخل في الثقافة الراقية الأدب والشعر والتاريخ والتمثيل والخطابة وما إلى ذلك ، ولغة أو لغتان من اللغات الحية الراقية ، والاجتماع ، والاقتصاد، والسياسة، وعلم الحياة ، والفلسفة والخ. بل قد يدخل فيها الموسيقى والرقص والألعاب الرياضية بأنواعها كالمصارعة والملاكمة والتنس وكرة القدم حتى البلياردو." [29]
أيضا وفي رسالة إلى سري "... إن كثيرين من الأغنياء أصحاب الثروات الطائلة يغبطوننا ويتمنون أن يتمتعوا بالحياة كما نتمتع . أي غني في طول البلاد وعرضها يعيش كما أعيش ، العب العابي الرياضية فأمرن جسدي كله من الرأس إلى القدم كل يوم ، استحم بالماء البارد مرتين في النهار." [30]

في السجن

   وحتى أثناء وجوده في السجن في دمشق (في تشرين الثاني 1918) كان يقوم صباحا مبكرا مصمما أن يأخذ حمام بارد في سقيفة ينحدر فيها الماء مما استغرب المسجونون كيف استطاع ذلك والبرد الشديد "وضعت على باب السقيفة شالا ودخلت وغسلت جسمي بالصابون ودلكته دلكاً جيداً حسب عادتي في القدس." [31] أيضا وحول وجوده في السجن يكتب "استحممت جيدا مع شدة البرد ، وقد اضحكني قول احد السجناء أنه لو اعطوه مئة ليرة بل صرفوه من الخدمة العسكرية لما استحم بالماء البارد في مثل هذا اليوم."[32]

   وبعد فقدانه لزوجته سلطانة يستمر السكاكيني في نهج أسلوب يومي صحي "لم ازل أحاول أن أقوي نفسي : استحم بالماء البارد مرتين ، في الصباح وبعد الظهر ، وامارس العابي الرياضية ، واتناول كفايتي من الغذاء ، واستوفي حظي من النوم." [33] وفي تفسيره لفلسفة الحياة يظهر السكاكيني للجسد أهمية في مغزى الحياة "ليس المهم أن تعيش كثيرا ، وإنما المهم أن تعيش صحيحا نشيطا قادرا على العمل ، أن تعيش ما دامت الحياة اجمل بك ، فإذا بلي جسدك  وذهب  نشاطك وقل نفعك ، فالموت اجمل بك. "[34] وكان يرفض أن يهمل جسده حتى لا يصل إلى مستوى مهملي الجسد ".... وبعد أن استوفيت ما اريد من المطالعة لعبت العابي ومن اهم ما احرص عليه في هذه الأيام من الألعاب الرياضية ثني الركبتين لتقويتهما وحفظ مرونتهما استيفازا ونهوضا ، فقد رأيت كثيرين من الناس ممن هم اصغر مني سنا واكبر حين يركبون السيارات لا يستطيعون أن يرقوا درجاتها كأن الواحد منهم يحمل جندلا أو حديدا ، فخشيت إن تهاونت قليلا أن اصير إلى ما صاروا إليه والعياذ بالله. "[35] "وكان جزء كبيراً من سعادة السكاكيني يأتي من النشاط البدني ".... إذا كانت السعادة في الصحة والنشاط فإني اسعد خلق الله ، فإن ما اجده من اللذة في العابي وفي شعوري بما اجدده كل يوم من القوة وما اكتسبه من النشاط لا يفوقها لذه . ومما يزيدني لذه وسرورا وغبطة وسعادة ان سلطانة لا تقل عني شغفا بألعابها واستحمامها فهي لا تزداد مع الأيام إلا رشاقة ونشاطا وجمالا ورواء مما يجعلها جديرة أن تحمل اسم سلطانة. "[36] وكان الناس معجبين دائما بصحة السكاكيني "لا يراني احد إلا اعجب بصحتي وامتلاء جسمي والفضل في ذلك يرجع إلى الأسلوب الذي أعيش عليه ، ولا بأس إذا عدت إلى الكلام عنها:
الألعاب الرياضية ، كان الناس في بلادنا من آباء وأساتذة يعتقدون أن اللعب خفة وإضاعة للوقت ، ولذلك لم يكن الولد يبلغ الخامسة عشرة من عمره حتى يهجر العابه ولهوه ويتكلف الرزانة الكاذبة والظهور بمظهر الشيوخ قبل اوانه بحيث ينتقل بذلك من الطفولة إلى الشيخوخة فيلبس لبس الشيوخ ويتكلم بكلام الشيوخ ويمشي مشي الشيوخ فلا يعرف الشبيبة. [37]

كان السكاكيني نباتيا أما حول علاقته بالسجائر والنرجيلة كانت غير واضحة حيث كان يوقفها تارة ويعود إليها تارة أخرى "وقد عولت أن أكون نباتيا  لا آكل اللحم من كل ذي حياة ، ومائيا لا اشرب إلا الماء القراح، وهوائيا أي لا ادخن . أما النباتية فعهدي بها بعيد ، وأما المائية فعهدي بها جديد ، وأما الهوائية فهذه مشكلة المشاكل لأني اجد في تدخين السيارة أو اركيلة دماغا ثانيا. ولكن إذا لم استطع أن امتنع عن التدخين بتاتا فسأجرب أن ألزم حد الاعتدال . أي لا أزيد عن مئة اركيلة في اليوم !![38] ولربما ذكر ذلك من باب المزاح أو السخرية التي كان يتبعها دائما.

   وعند دخوله في سن السبعين يكتب "في هذا اليوم ادخل السبعين من العمر أو في العقد الثامن منه ، وهو ارذل العمر . صحتي جيدة لا استحم بالماء البارد في الصباح إلا احسست أني ولدت من جديد."[39]

    نلاحظ في مذكرات السكاكيني تحليل دقيق عن القوة البدنية ودورها في حياة الفرد ، هذا التحليل الذي يضاهي تحليل اختصاصيي الرياضة الأكاديميين وذلك عندما يقول أن المواطن الصالح هو من يزيد هذه القوة التي خُلِق بها ، وليس من ينقصها.  يرى السكاكيني أن العالم يحتاج إلى إصلاح كبير وإلا فمصيره إلى الضعف والانحطاط والزوال. واحدى طرق هذا الإصلاح هو الاهتمام بالجسد والعقل ، ووحدة العقل والجسد ، وهذا ما نراه في النهج الطبي - النفسي الذي دعا إليه الكثير من الفلاسفة والأطباء وعلماء النفس :
"يجب أن يكون الانسان قويا في جسده وعقله ونفسه. وليس أولئك النوابغ في قوة اجسامهم وعقولهم ونفوسهم من فلتات الطبيعة ، بل هم من الطبيعة وحسب اصلها. اشد من الفولاذ ولكننا اهملناها واسأنا استعمالها فأصبحت لجما ودما. كانت حواسنا اقوى واصح مما هي عليه الآن . كان جلودنا وعضلاتنا واعصابنا وعظامنا واعضاؤنا الداخلية والخارجية اصح واقوى منها اليوم بما لا يقاس ، فاذا قلنا يجب أن يكون الانسان قويا فإنما نعني تلك القوة الاصلية التي خلقنا عليها. بل أن تلك القوة قابلة للزيادة كما أنها قابلة للنقصان فلذلك لا حد لقوة الانسان. وأحق الناس بالحياة هم الذين يزيدون هذه القوة لا ينقصونها ، يقوون الجسم كلة لا يقوون عضوا على حساب غيره. إن الاجسام موتى لا اجسام احياء . إن الجسم الذي يصيبه أقل برد أو يتعرض لأقل حر فتنزل به الامراض لجسم مركب من جلود بالية. وكذلك عقل الانسان يجب أن يكون قويا جداً لا تجوز عليه الأوهام ولا تستعصي عليه المشكلات ولا تروج عنده الخرافات والترهات. إن تلك العقول التي انارت العالم ورفعت الإنسانية ليست آلهة بل هي عقول بشر فيجب أن نفتش عن الوسائل التي تجعل عقول الناس جميعاً من جنس تلك العقول . إذا اهمل الانسان عقله فلا فرق بينه وبين البهائم.
القوة القوة هذه هو التعليم الجديد الذي يجب أن نشربه ، من الناس من يقول أن للحق قوة ، ومنهم من يقول إن للقوة حق ، وإذا تأملنا قليلاً ، رأينا أن الحق يجب أن يكون للقوة ، بمعنى أن القوي في جسمه وعقله ونفسه أحق من الضعيف في جسمه وعقله ونفسه  بالوجود ، الأقوياء هم الذين يرثون الأرض ، حق القوي حق مريح ثابت يستند على عقل صحيح ومبدأ صحيح ، وأما حق الضعيف فهو حق مزعوم باطل يستند على عقل ضعيف ومبادئ منحطة وشعور مختل وجسد مستقيم.... " [40]
بالطبع يرى السكاكيني أن لأسلوبه في الحياة باطنا وظاهراً - "ظاهرُه العاب واستحمام واكل وقوة ونشاط ولهو وسرور، وأما باطنه فطهارة قلب وصحة عقل وحرية فكر وسمو نفس ومتانة أخلاق وجمال ذوق وسلامة نية، فإذا اكتفيت بالظاهر فقد أسأت فهمي وهذه آفة الأديان والمذاهب كلها."[41] وهذا لا يقلل من قيمة الظاهر عند السكاكيني الذي له ارتباط وثيق مع الباطن (كما أشير سابقاً).

المصادر والملاحظات :




[1] يوميات خليل السكاكيني ، ، يوميات . رسائل . تأملات ، الكتاب الأول ، ، نيويورك . سلطانة . القدس ، 1907 - 1912 . تحرير أكرم مسلّم ، مؤسسة الدراسات المقدسية ، مركز خليل السكاكيني الثقافي ، ص. 11.
[2] خليل السكاكيني: «كذا أنا يا دنيا» (سيرة ذاتية)، المطبعة التجارية، القدس، 1955م. اتحاد الكتاب الفلسطينيين، بيروت، طبعة ثانية: 1982م. (ص 162 و163).
[3]  يوميات خليل السكاكيني ، ، يوميات . رسائل . تأملات ، الكتاب الأول ، ص. 33.
[4] خليل السكاكيني: «كذا أنا يا دنيا» ، ص. 150
[5] يوميات خليل السكاكيني ، ص. 115.
يعتبر الاستحمام بالماء البارد وسيلة صحية هامة من اجل تقوية الجسم وجهاز مناعته مما يؤدي بالتالي إلى رفع مقدرته على التصدي للأمراض. كما يؤدي الاستحمام بالماء البارد إلى تقلص الشعيرات الدموية ودفعها الدم إلى القلب  مما ينعكس إيجابيا على جهاز القلب والدورة الدموية. 
[6] يوميات خليل السكاكيني  1/ كانون الثاني  1908 ، ص. 84 .
[7] يوميات خليل السكاكيني  3 حزيران و 21 أيار 1908، ص. 224.
[8] يوميات خليل السكاكيني ، 17 نيسان 1908،  ص. 182
[9] يوميات خليل السكاكيني ، 14 و 1 حزيران 1908 ، ص. 234.
 [10] يوميات خليل السكاكيني ، 27 و 14 حزيران 1908، ص. 243
[11] يوميات خليل السكاكيني، 22 أيار 1908 ،  ص. 214
[12] يوميات خليل السكاكيني ، 2 أيار ، 20 نيسان 1908 ، ص.  197.
[13] يوميات خليل السكاكيني  ، 25 و 12 أيار 1908 ، ص. 216.
[14] يوميات خليل السكاكيني ، 2 حزيران و 25 أيار 1908. ص.  226.
[15]يوميات خليل السكاكيني ، 23 و10 حزيران 1908 ، ص. 242.
[16]يوميات خليل السكاكيني ، 28 و15 حزيران 1908. ص. 244.
[17] يوميات خليل السكاكيني ، 28 و15 حزيران 1908. ص.  244.
[18] يوميات خليل السكاكيني ، 16 و3 حزيران 1908. ص. 235.
[19] يوميات خليل السكاكيني ، 6 تموز و23 حزيران 1908. ص. 252.
[20] يوميات خليل السكاكيني ، 2 تموز و19 حزيران سنة 1908. 249.
[21] يوميات خليل السكاكيني ، 30 تموز و30 حزيران ، ص.  257.
[22]   كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 21 تشرين الثاني 1908 ،ص.47-48 .    
[23]انظر: http://en.wikipedia.org/wiki/Khalil_al-Sakakini
[24]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني 1 كانون الثاني 1910 ، ص. 51- 52.
[25]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني 26/3/1920 ص.  189 - 190.      
[26]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني 1/1/ 1950 ص. 412.
[27]   كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني21 / 2/ 1917 ص.  108 - 109.
[28]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، رسالة إلى سري 14/1/ 1918 ص 124 - 125.
[29]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني 30/4/ 1932.
[30]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، رسالة إلى سري 24/7/1934 ص. 263 - 264 .
[31]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 22/ 12/ 1917 ، ص.  113.
[32]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 24 /12/ 1917 ، ص.  115.
[33]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 13/10/ 1940 ، ص. 328.
[34]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 1/1/ 1950 ، ص. 412.
[35]   كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 16/1/1934  ، ص 259 - 260.
[36]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 15 /11/ 1914
[37]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 18 / 4/ 1918  ، ص. 141 - 142.
[38]   كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 30/1/1932 ، ص. 222.
[39]  كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 23/ 1/ 1948   ص. 383
[40] كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، 7 كانون ثاني 1933 ،ص. 116 - 117.
[41] كذا أنا يا دنيا ، يوميات خليل السكاكيني ، . 22 أيار 1919 ، ص.  150.
                                               

1 comment: