Wednesday, October 12, 2022

الرياضة الفلسطينية تضحيات وهوية وعروبة

 

         

        عصام الخالدي

 

     الرياضة ليست مجرد نشاط حركي دون محتوى وهدف ، وكرة يتبارى بها فريقان من اجل إحراز هدف ، إنها اكثر من ذلك . نعم ، إنها لا تغير من تسريحة شعرنا أو طريقة اعدادنا للطعام ، ولكنها تغير من احاسيسنا ومشاعرنا وعلاقاتنا وسلوكنا ووعينا وتصورنا للكثير من الامور في حياتنا والعالم من حولنا. قال الزعيم والمناضل الجنوب افريقي نلسون منديلا بعد فوز بلاده في بطولة العالم في الرجبي عام 1995 عن الرياضة أنها "قوة باستطاعتها تحريك مشاعر الناس بطريقة يعجز عنها اي شيء آخر." وعندما برز فريق مثل فريق الوحدات (في مخيم الوحدات بالأردن) قال عنه الرئيس الراحل ياسر عرفات "عندما لم يكن لدينا صوت كان الوحدات صوتنا." وليس من المُبالغ به أن النشاط الرياضي كان من أكثر الأنشطة التي جمعت ابناء فلسطين على مر العقود، هذا النشاط الذي لم يساعد في بناء الأجساد وإكساب المهارات الحركية فحسب بل و في صقل الشخصية وإكساب صفات معنوية واخلاقية كان لها أثراً في تعميق روح الانتماء للنادي الذي كان ينتمي له الفرد بالإضافة إلى قريته ومدينتة ووطنه وعروبته.

 

     إن إدراك جوانب عدة لتاريخ فلسطين الحديث يستوجب تتبع مسيرة الرياضة الفلسطينية على مدى ما يقارب المئة عام ، التي بدونها  (وبدون مبالغة) يصعب فهم التاريخ والمجتمع الفلسطيني المعاصر فهماً وافياً ، ومن المعروف  أنه  كان للرياضة ارتباط بجميع نواحي الحياة ، وكان لها تأثيراً وقوة في المساهمة في توجيه المسار النضالي والثقافي والاجتماعي للشعب الفلسطيني، فقد كان هناك دائما تفاعل متبادل بينها وبين الواقع الفلسطيني ، فمن جهة كانت الرياضة دائما تعكس المعاناة والتشتت ، ومن جهة أخرى كان للواقع الفلسطيني انعكاساته على الرياضة وعلى نموها وتطورها . وكان للأندية الاجتماعية الرياضية دورها في العمل الوطني وإظهار الهوية الفلسطينية والتصدي المستمر للمد والهيمنة الصهيونية التي كان من ضمن مخططاتها استغلال الرياضة من أجل بناء الوطن القومي ، فالتعاون مع العرب لم يكن وارداً في اجندتها الاستيطانية التوسعية.

يذكر الملاكم الفلسطيني أديب الدسوقي عن مشاركته في ثورة 1936: "في أحد الليالي اشتدت المعارك في يافا وكان القائد الراحل الشيخ حسن سلامة يتنقل بين الجبهات.... التقى بي وأنا أعمل مع عدد من المجاهدين قال لي بالحرف الواحد : يا أديب عندنا الآلاف لتحمل البندقية والقنبلة ولكن لا يوجد عندنا من يحمل قفازات الملاكمة ويمثل فلسطين .. غدا تسافر إلى مصر عند المفتي [الحاج أمين الحسيني] وتعمل هناك في ميدانك الرياضي !" وهذا ما كان يعكس وعي هذا القائد لدور الرياضة في إبراز وجه فلسطين كسلاح من نوع آخر له قيمته الوطنية والمعنوية.

 

   في عام 1931 تأسس الاتحاد الرياضي الفلسطيني كرد على هيمنة الصهاينة على "الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم" الذي تأسس عام 1928 من قبل اليهود والإنجليز والعرب وفورا قام بإبعاد العرب وتهميشهم ،  إلا أن نشاطه (الاول) توقف في نهاية الثلاثينيات بسبب الأوضاع السياسية في البلاد. وفوراً بعد إعادة تأسيسه في عام 1944 دعا الاتحاد من خلال صحيفة (فلسطين) إلى تأجيل المباريات بمناسبة الذكرى السنوية لوعد بلفور المشؤوم وتضامنه مع مختلف الهيئات استنكاراً لهذا الوعد الجائر .

 

     لم يتوان الاتحاد الرياضي الفلسطيني عن تقديم الدعم لنظيره الاتحاد السوري لكرة القدم والرياضيين في سوريا الشقيقة ومشاطرتهم آلامهم في النكبات التي أصيب بها السكان في سوريا (عندما احتل الفرنسيون دار البرلمان السوري في أيار 1945 وحاولوا عرقلة الحياة الدستورية بالحديد والنار) بإرسال مبلغاً من المال إلى الاتحاد السوري لتصرف على منكوبي الاضطرابات . وقد لبت العديد من الأندية هذا النداء ، حيث أقامت عدة مباريات ورصدت ريعها لهذا الغرض.

 

    في عام 1944 وفي الفترة التي كان هناك ازدياد من الخطر الصهيوني في فلسطين قام النادي الرياضي الإسلامي (تأسس عام 1926) بتأسيس منظمة النجادة التي يشير إليها خير الدين أبو الجبين في كتابه (قصة حياتي في فلسطين والكويت) أنها كانت قد تأسست في مدينة يافا في عام 1944، وكانت أول منظمة شبه عسكرية على غرار منظمة النجادة اللبنانية . وفي أول أيام عيد الفطر في عام 1944 جرى أول استعراض محلي للنجادة في يافا حيث قامت نجادة النادي الرياضي الإسلامي باستعراض كبير في شوارع المدينة استمر ساعتين وكانوا يرتدون زي النجادة شبه العسكري ، وقد قوبلوا من الجمهور بالترحاب ولفتوا الأنظار إليهم وبعدها زاد الإقبال على الانتساب للنجادة من داخل النادي وخارجه.

 

     وفي عام النكبة (1948) وقف الكثيرون من أعضاء الأندية الرياضيين وغيرهم للدفاع عن وطنهم واستطاعوا أن يثبتوا أن الوطن السليم في الجسم السليم واستشهد الكثيرون منهم وكانت هذه النزعة الوطنية هي الأسمى التي تميزت بها الحركة الرياضية والأندية في فلسطين في ذلك الوقت ، ففي يناير 1948 قتل اللاعب المعروف والجناح الأيسر لمنتخب فلسطين وعضو النادي الرياضي الإسلامي في يافا زكي الدرهلي من جراء عبوة ناسفة كانت قد زرعتها العصابات الصهيونية في عمارة السراي في يافا (التي جرت فيها الانتخابات البلدية في عام 1946). كما واستشهد لاعب النادي الرياضي الإسلامي فخر قرة نوح الذي قتله الصهاينة غدراً في حي المنشية في يافا. واستشهد أيضا محمد نفاع حارس مرمى إسلامي حيفا مدافعا عن مدينة عكا. ولم يستطع المصارع الفلسطيني سليمان البيبي أن ينجو من جراحه التي حملها طيلة عشرين عاما عندما أصيب في مدينة عكا في عام النكبة ليتوفاه القدر في الشتات بعد حوالي عشرين عاما - في عام 1967.

 

 أتت نكبة عام 1948 لتدمر البنية التحتية للرياضة الفلسطيني فالأندية دمرت ووثائقها نهبت لتحفظ في الأرشيف الإسرائيلي الذي اصبح من الصعب الوصول إليه فيما بعد ، وتشتت اللاعبون الذين حملوا معهم ذكرياتهم وخبراتهم ونقلوها إلى مناطق الشتات، فمنهم من لعب ضمن فرق الاندية العربية ومنهم من اصبح استاذا أو مدربا أو إدارياً.  وبعد أن كانت تمارس كرة القدم على ملاعب لائقة في معظم مدن وقرى فلسطين أصبحت تمارس في أزقة المخيمات الوحلة ، فهذه الكرة لم يختلف مصيرها عن مصير عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين.

 

   بعد تشتت ما لا يقل عن 750 ألف فلسطيني في مخيمات اللاجئين في الشتات ونكران العالم لوجودهم لم يقتصر نضال الشعب الفلسطيني على حمل السلاح فقط ، بل تعداه لاستخدام كل الوسائل الممكنة السياسية والاجتماعية والثقافية وأيضا الرياضية . ومن الظواهر الغريبة أن عدد الأندية بعد عام النكبة كان قد تزايد خاصة في مخيمات اللاجئين التي كثير منها بدأت كمؤسسات للخدمات الاجتماعية ومن ثم تبنت النشاط الرياضي ، وهذا ما اعطى السمة الاجتماعية للرياضة الفلسطينية بعد النكبة. واصبحت كثير من هذه الاندية تحمل اسماء القرى والمدن التي هاجر اصحابها منها . ولا بد للإشارة إلى أن نشوء الأندية كان ظاهرة اجتماعية طبيعية في المجتمع الفلسطيني منذ بداية عشرينيات القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر ، وطيلة التطور الاجتماعي الفلسطيني فإن هذه الأندية كانت بمثابة محركا أساسيا للتطور الرياضي في فلسطين.


   ليس من الصدفة أن نرى فلسطين تشارك في دورة الألعاب العربية الأولى في الإسكندرية عام 1953،  هذه المشاركة التي كانت بمثابة خطوة أولى عظيمة تخطوها الحركة الرياضية الفلسطينية في محاولتها إظهار الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني ، خاصة أنها أتت بعد خمس سنوات من النكبة التي كان هذا الشعب يعاني من ويلاتها، وكان بحاجة ماسة لإثبات وجوده وهويته.  ومن المعلوم  أن الرياضة الفلسطينية قبل النكبة كانت قد وصلت إلى مستوى جيد وذلك بفضل المقدرة والجهود التنظيمية والادارية للاتحاد الرياضي الفلسطيني الذي اعيد تشكيله عام  1944 ، فقد انجبت تلك الفترة وما قبلها العديد من الرياضيين (خاصة الملاكمين والمصارعين) والقياديين والمدربين الرياضيين الذين كانوا ذي كفاءة عالية تؤهلهم للمشاركة في هذه الدورة ، وقد نزح الكثيرين منهم بعد عام 1948 إلى قطاع غزة ليعملوا كإداريين مثل زكي خيال وصبحي فرح. وكان للدعم العربي أيضا (وخاصة من مصر العروبة) في تلك الفترة دوره في هذه المشاركة التي تكررت أيضا في الدورة العربية الثالثة في الدار البيضاء عام 1961 والقاهرة عام 1965 ، ومعظم الدورات اللاحقة حتى دورة الدوحة عام 2011.

 

   شهدت الرياضة في قطاع غزة تطوراً ملحوظاً بين عام 1948 و 1967 تحت الإدارة المصرية ، وقد  اعتمد النشاط الرياضي هناك على ركيزتين أساسيتين: الأولى مراكز الرعاية والتي كانت تتبع إلى وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين التابعة لهيئة الأمم المتحدة. والثانية: المجلس الإقليمي لرعاية الشباب الذي كان يتبع بلدية غزة تحت إشراف الحاكم الإداري لقطاع غزة. وفي عام 1962 قام مجموعة من الشباب الناهض في قطاع غزة بتأسيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم أو ما كان يسمى رسمياً (الاتحاد الرياضي الفلسطيني - لجنة كرة القدم) . وفي نفس الوقت تم تشكيل تشكيل اتحادات رياضية مختلفة بالإضافة إلى تشكيل اللجنة الأولمبية الفلسطينية التي أرسلت طلباً للانضمام إلى اللجنة الأولمبية الدولية . وبعد عناء طويل ومراسلات مكثفة قرر الاتحاد الدولي رفض طلب الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم حيث أرسل له برقية جاء فيها »نحن نرفض قطعيا قبول منطقة اسمها غزة كعضو في الفيفا. ليس هناك دولة اسمها فلسطين، لذا فإن غزة ليس من الممكن أن تكون في فلسطين. إن قبول جزء من دولة كعضو مستقل يتناقض مع قواعد الفيفا.

 

  بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ، في عام 1969 تشكل المجلس الأعلى لرعاية الشباب ، قام المكتب التنفيذي بتشكيل اتحاد لأنواع رياضية مختلفة . بعد أحداث أيلول انتقل من عمان إلى بيروت ،  اجرى مؤتمره الأول في عام 1974 في سوق الغرب وتم تغيير الاسم من (المجلس الأعلى لرعاية الشباب) إلى  (المجلس الأعلى للشباب والرياضة ). توقف نشاط المجلس الأعلى للشباب والرياضة في لبنان عام 1994 بناء على أوامر المكتب التنفيذي الذي رحل إلى غزة بعد إقامة الحكم الذاتي .

 

 تأسس  الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم عام  1971 وتأسست بعده الاتحادات الرياضية المختلفة ، ودخلت فوراً في الاتحادات العربية. وكان للدعم العربي للرياضة الفلسطينية دوراً كبيرا في الحفاظ على الهوية الوطنية، فقد رفعت هذه المشاركات عَلَم فلسطين وأظهرت اسم فلسطين وشعبها ، وكان لهذه الوفود الرياضية الفخر بأن تستقبل استقبال الأبطال من قبل اخوانهم العرب.  ومنذ بداية الخمسينيات وحتى وقتنا الحاضر ما زلنا نرى نرى العديد من الفرق والرياضيين العرب الذين يرفضون التباري مع الرياضيين الإسرائيليين بهدف التعبير عن تعاضدهم وتضامنهم مع فلسطين وقضيتها العادلة الانسانية والعربية. كما وساهمت الاتحادات الرياضية العربية في دعم الاتحاد الرياضية الفلسطينية في الانضمام في عضوية الاتحادات الرياضية الدولية.

 

   لقد تميزت فترة 1967 - 1993 بعدم وجود مؤسسات دولة ، التي تعتبر العامل الأساسي لتطور وتقدم جميع مجالات الحياة في أي بلد. لذلك فقد  انعكس هذا على النشاط الرياضي ، فعدم وجود اتحاد رياضي ووزارة للرياضة والشباب بعد عام 1967 كان له تأثيراته في ضعف البنية التنظيمية للرياضة خاصة بين عام 1967 وحتى منتصف السبعينيات، إلا أنه وبرغم ذلك فقد تميزت فترة 1975 - 1987 بقوة التنظيم وبالعلاقات الطيبة وبوفرة المباريات الودية والأخوية بين الأندية في الضفة . ومن المعلوم أنه في عام 1975 تأسست رابطة الأندية في الضفة الغربية وفي عام 1980 في قطاع غزة . وكانت هاتين الرابطتين بمثابة وزارتين للرياضة ، وكان هاك تنسيق بينهما وعشرات اللقاءات بين انديتهما. وقد استمر عملهما حتى بداية الانتفاضة الأولى حيث توقف واعيد في عام 1992 ، إلا أنه توقف بسبب إقامة السلطة الفلسطينية التي أقامت مؤسسات تابعة لها وأبعدت (همّشت) معظم مؤسسات المجتمع المدني التي كانت تعمل في الضفة وقطاع غزة لفترات طويلة.

  في العقد السابع والثامن من القرن الماضي كانت الأندية الرياضية الاجتماعية في الضفة الغربية وقطاع غزة بمثابة قلاع للنشاطات الوطنية ، فهي ومؤسسات المجتمع المدني كانتا جزء من الحركة الوطنية التي كان خطها موازيا لخط منظمة التحرير الفلسطينية  ، ولهذا السبب قامت سلطات الاحتلال بوضع عقبات جمة امامها .

 

   بالطبع فإن نجاح الرياضة الفلسطينية في إبراز هوية شعبنا توج في انضمام فلسطين إلى اللجنة الأولمبية الدولية عام 1995 والاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) عام 1998 ،  إلا أن العضوية (خاصة) في الاتحاد الدولي (الفيفا) تطلبت الخضوع لمطالب العولمة التي كان لها تأثيرات سلبية على قضية انتماء الرياضي لناديه وقريته ومدينته . وهذا يذكرنا بما أشار إليه الباحث مازن المصري في مقاله "منظمة التحرير الفلسطينية وأزمة التمثيل أن "منظمة التحرير الفلسطينية تحولت من وسيلة "ثورية" تسعى لتحقيق الأهداف الوطنية إلى مؤسسة يعتمد بقاؤها على شرعيتها في أعين المجتمع الدولي اكثر من على شعبيتها بين الشعب الفلسطيني . وهذا ينطبق أيضاً على الرياضة الفلسطينية التي من الصعب تجاهل هذا التقدم الذي حققته منذ عام 1993 والذي تمثل في وضع الحركة الرياضية على اسس تنظيمية وإنشاء المؤسسات الرياضية التي تكفل نجاح الحركة الرياضية مثل وزارة الرياضة والشباب والاتحادات الرياضية بما فيها الاتحاد الفلسطينية لكرة القدم واللجنة الأولمبية الفلسطينية وغيرها. إلا أن هذا التطور الذي حدث في الضفة وقطاع غزة كان على حساب أماكن أخرى في الشتات وعلى حساب قيم وطنية وديمقراطية تراكمت خلال فترة الخمسينيات وحتى بداية التسعينيات .  لقد تحولت الرياضة من أداة كانت تجمع كل مناطق الشتات تحت مظلة وطنية ديمقراطية واحدة ، إلى مؤسسة تتمركز في الضفة ويعتمد بقاؤها على شرعيتها في نظر المجتمع الدولي أكثر من شعبيتها بين الشعب الفلسطيني.

 

 

 

No comments:

Post a Comment