Sunday, June 11, 2023

الانتفاضة الأولى (١٩٨٧ - ١٩٩٣) والنشاط البدني

 


عصام الخالدي

 

    في عام 1987 ومع بدء الانتفاضة الفلسطينية المجيدة قامت قوات الاحتلال باقتحام الأندية الاجتماعية الرياضية واعتقال اعضائها مما أدى إلى إغلاق الأندية كخطوة احترازية ، وكان لهذا الإغلاق تأثيراته السلبية على الحركة الرياضية بشكل عام. ولا بد قبل البدء في الخوض في الحديث عن الأندية والنشاط البدني إبان الانتفاضة الأولى إلى تذكير القارىء بالدور الوطني والاجتماعي والثقافي والتربوي الذي لعبته الأندية منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحاضر والتي كانت تشكل نواة الحركة الرياضة ومحركها الفعال لعقود عدة ، هذه الأندية التي كان لها دور كبير في إظهار الهوية الوطنية الفلسطينية والحفاظ عليها ، والعمل على صقل شخصية الشباب الفلسطيني المعاصر بروح الانتماء وحب الوطن وتعزيز روابط الأخوة بينهم في كافة القرى والمدن الفلسطينية. 

    يرى الكاتب أنه من أجل دراسة هذا الموضوع يتحتم تناول الرياضة من جانبيها أولاً: التنافسي (التباري) ، وثانياً: الصحي (ومقومه الأساسي التمرين البدني). من المعروف أن الرياضة من جانبها التنافسي هي قوة ناعمة تستطيع أن تؤدي وظائف سياسية معينة التي في بعض الاحيان السياسة نفسها لا تستطيع تحقيقها ، إلا أنها تبقى في نطاق محصور. ولكن وفي آن واحد يجب عدم التقليل من وظائفها  الأخرى كالوطنية والتربوية والاخلاقية والاجتماعية والثقافية ، وقدرتها على تحقيق تقدم في المجتمعات وإحداث تغييرات فيها.  للأسف أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تعِ منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحاضر الدور الذي ممكن أن تلعبه الرياضة على الصعيد الوطني خاصة فيما يتعلق بالتصدي للمخططات الصهيونية، وبصقل جسد فلسطيني قوي وصحيح، ولم تضع هذه المهام ضمن اجندتها الوطنية – الفكرية. ولا بد للتذكير أن النزعة الوطنية للرياضة الفلسطينية منذ العشرينيات من القرن الماضي (مثلها مثل الهوية الوطنية الفلسطينية التي نشأت كرد فعل لأخطار الصهيونية) نشأت كرد فعل مستمر لهيمنة وممارسات الجانب الصهيوني على الساحة الرياضية من جهة وعلى دعم الانتداب له من جهة أخرى، وليس لأن الرياضة كانت عنصراً مكوناً ضمن استراتيجية الحركة الوطنية الفلسطينية.

    إن المقصود هنا بالاهتمام بالجسد هو الوعي الصحي له والعمل على تقويته وتهذيبه ووقايته من الأمراض واتباع نمط حياة صحي (نوم ، غذاء ، تمرين ، وقاية التوتر) والوصول به إلى حالة الكمال التي يتطلبها المجتمع . إن الاهتمام بالجسد هو نشاط وطني في كثير من الأحوال ، لأنه يلبي احتياجات الوطن والتي منها أن يكون المواطن صحيح الجسم، وهذا ما لم تعيه الحركة الوطنية ، لذلك لم يكن هذا النشاط ضمن اجندتها الوطنية ، فهي لم تعمل على جعل التمرين البدني جزء من حياة افرادها ، ولم تولي الاهتمام بالدعوة للاعتناء به ، وهذه الظاهرة لا تنطبق على ممثلي الحركة الوطنية فقط ، بل أيضا وكما اشرنا في مقالات أخرى على المثقفين أيضاً. إن تاريخ فلسطين الحديث فيه أمثلة قليلة عن مثقفين (مثل الأديب والمربي خليل السكاكيني) جعلوا التمرين البدني جزء هاما من حياتهم وذلك لوعيهم بأهميته وتأثيره على الجسم والعقل معا ، بالإضافة إلى دعوتهم المستمرة لجعل التمرين البدني جزء من حياة المواطن. ولا ننسى أيضاً الاستاذ الفاضل حسين حسني في اربعينيات القرن الماضي ودعواته من خلال صحيفة (فلسطين) للاهتمام بالجسد وجعل التمرين البدني جزء من نمط الحياة وإبراز دور الرياضة في تحقيق المهام الوطنية.

 

   هناك عامل آخر جدير بالذكر وهو أن الرياضة كانت عنصرا من عناصر الحداثة التي دخلت المنطقة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وتكرس وجودها مع دخول الإنجليز إلى فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى . وكان من الواضح أنّ تَبنّي هذه الحداثة (والتي من ضمنها الرياضة) كان شكليا وليس ضمنيا أي أنه تم تقبل وأخذ الشكل والقشرة فقط دون والوعي للُبها وجوهرها بأنها اكثر من نشاط حركي تنافسي لها وظائف عديدة في المجتمع ، يمكن تسخيرها لتحسين صحة المواطن ولتعزيز المشاعر الوطنية وإثبات الهوية الوطنية وتكريس الصفات الأخلاقية وصقل شخصية الجيل الناشىء بروح العطاء والانتماء وغيرها من الفوائد والطاقات الكامنة بها التي تعمل على تقدم المجتمع والوطن. لذا فإن عدم فهم هذه النواحي وإدراكها يعكس فشل الحداثة الذي شمل أيضا نواحٍ اخرى فكرية وتكنولوجية وثقافية وغيرها. ولربما خصمنا الصهيوني كان يدرك اكثر منا هذه الفوائد والوظائف للرياضة التي قام بتسخيرها من أجل بناء كيانه في فلسطين.

 

  بعد النكبة ، لوحظ تعزيز الجانب التنافسي للرياضة وخاصة في ستينيات القرن الماضي عندما أصبح مركز ثقل الحركة الرياضية الفلسطينية في قطاع غزة ، وقد ظهر ذلك في تعزيز الجانب التنافسي للرياضة وتمثل بعاملين أولا: مشاركة فلسطين في دورة الألعاب العربية في عام 1953 والألعاب التي تلتها ، ثانيا: المحاولات الجادة من قبل الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم للانضام الى الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) ، وبالرغم من رفض الأخير هذا الطلب ، إلا أن هذه المحاولات كانت تجسد إصرار القياديين الرياضيين الفلسطينيين على إثبات وجود الشعب الفلسطيني وإثبات هويته الوطنية.

 

  من الواضح أن النشاط الرياضي منذ عام 1967 لم ينفصل عن العمل الوطني وهذا بسبب طبيعة الظروف التي كان يعيشها الشعب الفلسطيني في تلك الفترة ، فقد كانت الحركة الرياضية في الضفة وقطاع غزة تسير بشكل موازٍ مع الحركة الوطنية وتنسق معها في كثير الاحيان . ولا بد للتذكير بأن الكثير من الأندية كانت تحت إشراف الفصائل الفلسطينية التي كانت تنضوي تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن في آن واحد فإن هذه النزعة الوطنية للرياضة نشأت أيضا كرد فعل مستمر للممارسات الإسرائيلية تجاه الرياضة الفلسطينية ، وليس لأن الرياضة تمنهجت كواحدة من الوسائل الوطنية - الفكرية ضمن الاجندة الوطنية الفلسطينية.

 

   أما على الجانب الصحي فقد كان هناك تقصير من قبل الحركة الوطنية والثقافية منذ النكبة وحتى وقتنا الحاضر ويعزى ذلك لعدة أسباب أهمها كما ذكر سالفاً فشل الحداثة التي تم تبني قشورها وعدم الوعي لجوهرها ، ثانيا الظروف السياسية والاقتصادية التي عاشها وعانى منها شعبنا كانت عائقا كبيراً أمامه لكي يولي التمرين البدني اهتماما ، فوفقاً لتسلسل ماسلو Maslow الهرمي للاحتياجات فإن الوعي لفوائد التمرين البدني وممارسته تأخذ مكانها على قمة الهرم (من أسفل الهرم: الفسيولوجية ثم الأمان ثم الحاجات الاجتماعية ثم حاجات التقدير ، وفي قمة الهرم: الحاجة لتحقيق الذات) وهي الحاجة لتحقيق الذات أي تحقيق الإنجازات والانشطة الإبداعية . لكن هذا لا يتحقق طالما أنه هناك غياب في احتياجات الأمان  (التي تتضمن السلامة الجسدية ، الأمن الوظيفي ، أمن الموارد ، أمن الممتلكات). فكما هو معروف أن الفقير الجائع لا يهمه الوعي الصحي لأن همه الأول هو اللحاق وراء لقمة العيش. ثالثا: نظرة المجتمع إلى الرياضة والتمرين البدني بشكل عام على أنها نشاط فارغ المحتوى والهدف ودون جدوى. رابعاً: بسبب الظروف السياسية فقد شهدت الثقافة نوعاً من التسييس الذي هيمن على الوعي الثقافي لدى فئة المثقفين التي تعتبر طليعة شعبنا ، مما أدى في النهاية إلى إغفال اشكال اخرى من الوعي الاجتماعي كالصحي مثلا.

 

    لا بد للاشارة إلى الدور الذي لعبته الأندية خلال الانتفاضة الأولى ، فكما يشير فتحي أبو العلا إلى  أن إغلاق الأندية وتجميد الحياة الرياضية، وما سبقها من بناء للوعي وتنظيم للكادر عبر العمل الاجتماعي، جعل الأندية قاعدة ارتكاز للعمل الوطني خلال الانتفاضة. ويضيف بأن النواة الصلبة للمنخرطين بالانتفاضة كانت من فئة الشباب بين 15 و25 عاماً،[1] أيضاً، شكلت الأندية، خاصة مراكز الشباب في المخيمات، عناوين لتأسيس وتنظيم عمل اللجان الشعبية والتي كانت نواظم الحياة الاجتماعية خلال الانتفاضة. [2]

بعد انطلاق الانتفاضة وتعطل المنافسات الرياضية الرسمية في العام 1987، ومع إغلاق الأندية، بادر مجموعة من الرياضيين بإطلاق الساحات الشعبية، بعد عامين تقريباً من الانتفاضة، والتي يشير أحد أبرز مؤسسيها علي أبو حسنين إلى أنها كانت الحواضن للمواهب الرياضية التي وجدت أبواب الأندية والملاعب مغلقة أمامها، وهي تجربة تطورت بالتدريج ونظمت مباريات ومنافسات بين جميع الساحات، خاصة في القطاع.[3] لكن هذه المنافسات كانت تنشيطية في ظل اعتقال معظم كوادر الحركة الرياضية، خاصة اللاعبين، خلال الانتفاضة. [4]

  

     بالطبع لا احد ينكر الدور الذي لعبه اعضاء الأندية في تلك الفترة فتدريبهم ولياقتهم اعطتهم الإمكانية في المراوغة والتصدي للاحتلال ، وكان لهم رصيد كبير في ذلك. وكما يشير أسامة فلفل ورغم الإغلاق فعلى مدار الأشهر الأولى ومع غليان الانتفاضة المجيدة وسقوط المئات من الشهداء أقفلت الأندية والمؤسسات والمراكز الرياضية أبوابها تلبية لنداء القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة ، وتجسدت وحدة العمل الميداني على الأرض ، وارتبك العدو الصهيوني لهذا التلاحم المتميز للقطاع الرياضي. وفي الوقت الذي كان فيه شعبنا الفلسطيني يكتب بالدم تاريخاً مشرقاً ، ويسقط فيه مئات الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى والمصابين والمعاقين برصاص الاحتلال وقطعان مستوطنيه ، ورغم كل ممارسات الاحتلال وإجراءاته التعسفية والقمعية بحق شعبنا وقادة وأبطال الحركة الرياضية الفلسطينية . ورغم كل أشكال الملاحقة والمطاردة والإبعاد عن الوطن ، ظل القطاع الرياضي رافداً الساحة بالأبطال الذين تقدموا الصفوف والتحموا مع أبناء شعبهم في معركة الواجب ، معركة التحرير والاستقلال. [5]

   غير أنه ومن جانب آخر أن لجأ الرياضيون إلى نمط حياة غير منظم يغيب فيه النشاط الحركي  أصبحوا مصابون بالترهل مما افقدهم صفات بدنية كانوا قد اكتسبوها خلال الفترات السابقة من خلال التدريب والمباريات. ولم يقتصر النقص الحركي على الرياضيين وحدهم بل على الأغلبية الساحقة من السكان ومن بينهم الأكاديميين الذين كانوا يقضون معظم اوقاتهم داخل البيوت حيث انتشرت ظاهرة لعب الورق وتزايد معدل التدخين والإفراط في تناول الطعام.

    لم تدعو القيادة الوطنية الموحدة إلى جعل التمرين البدني جزء هاماً من حياة المواطن في تلك الفترة التي غاب بها النشاط الحركي ، وبديل لغياب النشاط الحركي الذي كان يعاني منه المواطن . بعد تفحص البيانات التي اصدرتها القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة (من البيان الأول في 8 كانون الثاني 1988 وحتى البيان رقم 97 في 8 كانون الثاني 1993) [6]  لم أجد أي نداء أو دعوة موجهة للأندية أو الرياضيين أو المواطنين للاهتمام بأجسادهم وصحتهم ومواجهة وتفادي الخمول والكسل ونقص الحركة نتيجة التواجد المستمر داخل البيوت.

 

   يظهر لنا التاريخ أن شعوب وثورات أخرى وفي أحلك الظروف عملت على جعل التمرين البدني جزء مقوما من حياة الأفراد وتقويتهم بدنياً ومعنوياً . وحرصا على تجنب هذه الظاهرة الصحية وإيمانا مني بأن تعزيز الجانب الصحي لشعبنا هو مهمة وطنية فإن هذا ما دعاني أن كتابة مقالٍ في البيادر السياسي في تشرين الثاني عام 1988 أي إبان الانتفاضة حول هذه الأمر متأسفا  للتأثيرات الجانبية للانتفاضة التي لم تحارب والتي كان من الممكن تجنبها وتفاديها بواسطة نداءات من الحركة الوطنية أو القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة أو حتى من كثير من المثقفين والأكاديميين الذين هم أيضا أصبحوا يعانون من هذه الظاهرة. وهذا نص لبعض ما جاء في هذا المقال:

 

هل تتعارض ممارسة الرياضة مع احتياجات الوضع الراهن؟

   إن المقصود هنا ليس الرياضة ذات الاتجاه التنافسي أو الترفيهي وإنما الرياضة ذات الاتجاه الصحي.

إن متطلبات الوضع الراهن لا تعارض أن يكون مواطننا متكاملا بدنيا ، لأن اهدافها مبنية على تحقيق سعادته. فمن الخطأ أن يبقى مواطننا حبيس الجلوس المتواصل والإفراط في تناول الغذاء والاستسلام للتوترات العصبية الناجمة عن طبيعة الحياة التي يعيشها. لذا يتوجب عليه أن يعي بأن الاهتمام بالجسد هي مهمة انتمائية وأخلاقية ، وجزء من تحقيق احتياجات الوضع الراهن. ان مجتمعنا بحاجة إلى أناس اقوياء بدنيا لكي يستطيعوا أن يواجهوا مصاعب الحياة الراهنة. لذلك يمكن تسخير الرياضة كجزء من الثقافة العامة بحيث أن تتلائم مع هذه الأوضاع وأن تعمل على حل المهام الصحية. فعندما يكون المواطن قويا جسديا فإنه يقلل من زياراته للاطباء ، ويختصر من تناوله للأدوية ومن مكوثه الطويل في المستشفيات هذه التي تتطلب انفاقا كبيراً للمصروفات التي يمكن صرفها على أغراض حياتية اخرى.  يجب أن يوجه النقد لهؤلاء الذين يقفون أمام ممارسة الرياضة باتجاهها الصحي والذين ينظرون إليها كوسيلة من اجل التهرب وعدم تحمل المسؤولية تجاه ما يدور في الساحة. [7]

 

     وفي الختام أرجو من عزيزي القارىء أن لا يفهم مما اكتبه أنه تقليل من اهمية النجاحات التي تحققت إبان الانتفاضة الأولى سواء على الصعيد السياسي أو المعنوي أو الاجتماعي ، ففي نهاية المطاف فإن هذه الظاهرة والتأثيرات الجانبية الاخرى للانتفاضة لم تنقص من اهميتها كثورة سياسية اجتماعية حقق بها شعبنا نصرا عظيما انتهت للأسف باتفاقية أوسلو التي لم تجلب لشعبنا سوى المعاناة ومصادرة الأراضي والاستيطان والجدار العازل والتنسيق الأمني وغيرها .

 

المراجع



[1]  فتحي أبو العلا، مقابلة هاتفية، رام الله- غزة، 20 / 05/2022.  ، بحث: المؤسسة الرياضية ومجتمعها في الأرض المحتلة (1967-1995)  هاني عواد ومجد أبو عامر. ص 24

[2]  عطا الرزي، مقابلة شخصية، جنين، 12/ 06/ 2022. بحث: المؤسسة الرياضية ومجتمعها في الأرض المحتلة (1967-1995)  هاني عواد ومجد أبو عامر. ص 24

[3]  علي أبو حسنين، مقابلة هاتفية، رام الله- غزة، 14/ 06/ 2022. بحث: المؤسسة الرياضية ومجتمعها في الأرض المحتلة (1967-1995)  هاني عواد ومجد أبو عامر. ص 30

[4]هاني عواد ومجد أبو عامر: المؤسسة الرياضية ومجتمعها في الأرض المحتلة (1967-1995)  

[5] أسامة فلفل ، أضواء على الرياضة الفلسطينية بعد نكسة 1967 ، بالجول 2 شباط 2011

[7] عصام الخالدي ، الرياضة واحتياجات الوضع الراهن البيادر السياسي / العدد 327 تشرين الثاني 1988 ، ص 59.

 

No comments:

Post a Comment