Sunday, November 6, 2022

الجسد الفلسطيني: عماد الوجود والهوية والمقاومة

                                         

                                  

 

      التاريخ الفلسطيني الحديث مليء بالأساطير النضالية والبطولات والتضحيات التي كان الجسد الفلسطيني عمادها ، والذي من الصعب فصله عنها ، فهو كان عماد المقاومة دائما . لقد استطاع هذا الجسد الفلسطيني التحمل والصمود والثبات في مواجهة ممارسات الاحتلال وجيشه. كما وأظهر رشاقة عالية في مرواغة جيش الاحتلال ، وتوج  برغبته واستعداده للموت في سبيل الوطن.

 

     لقد قاتلت الأجساد الفلسطينية ببطولة ضد جلادها حتى بعد تحولها إلى عظام وجلد. يقول المناضل والسجين خليل عواوده الذي بقي مضربا عن الطعام لمدة 172 يوما في مقطع فيديو تم نشره عبر إعلام الأسرى:

يا أحرار العالم ... إن هذا الجسد المتهالك الذي لم يبق منه إلا العظم ، لا يعكس ضعف وعُري الشعب الفلسطيني ، إنما يعكس وجه الاحتلال الحقيقي الذي يدعي أنه دولة ديمقراطية."

 

  وفي قاموس النضال الفلسطيني ظهرت مفاهيم ومصطلحات جديدة انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي واصبحت صورها تُقاسم على هذه الشبكات لتعكس جبروت الجسد الفلسطيني والتي منها "تموت الأشجار واقفة" وذلك عندما يظل الشهيد واقفا شامخا رغم اختراق الرصاص جسده.

 

   من المؤكد أنه هناك تأثيرات سلبية واضحة للاحتلال وممارساته على صحة المواطن النفسية والجسدية (هذا بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية) ، إلا أن الفلسطينيون استطاعوا أن يطوروا المقدرة على التأقلم مع هذه الظروف الصعبة ، فهذه المعاناة قد خلقت جسداً فلسطينياً مميزاً قوياً قابلاً للتحمل في ظل أقسى الظروف ، كما وصقلته وشحنته بالقوة المعنوية والجلد. وقد استطاع الفلسطينيون من خلال استخدام اجسادهم الإطاحة بالسجان ومقاومة الاحتلال في كل مكان: في السجون وعند نقاط التفتيش والحواجز وفي الشوارع والبيوت. واظهروا للعالم اجمع أنهم اقوى من جيش الاحتلال ومدرعاته بأجسادهم القوية ومعنوياتهم وشجاعتهم الفائقة.

 

   كان الجسد الفلسطيني مصدر قوة وإبداع في سياقات بيئية وثقافية مختلفة كمزارع ومعلم وعامل ولاجىء وأم ومناضل ومقاوم وشهيد . وكان محط اهتمام الكتاب والشعراء والفنانين . وليس غريباً أن يصبح الفلسطينيون وأجسادهم وأساليبهم القتالية في مقاومة الاحتلال رمزاً للقتال من اجل الحرية في جميع انحاء العالم ، وقد أصبحنا نرى الكثير من الشباب في هذا العالم يستخدمون نفس الأساليب القتالية التي يستخدمها الشباب الفلسطيني في نضالهم مقلدين لهم حركاتهم وتعابيرهم الجسدية .

 

    في عام 1987 ومع بدء الانتفاضة الفلسطينية المجيدة قامت قوات الاحتلال باقتحام الأندية الاجتماعية الرياضية واعتقال اعضائها ، هذا ما ادى إلى إغلاق الأندية كخطوة احترازية ، وكانت نتيجة هذا أن لجأ الرياضيون إلى نمط حياة غير منظم يغيب فيه النشاط الحركي ، حيث أصيبوا بالترهل مما افقدهم صفات بدنية كانوا قد اكتسبوها خلال الفترات السابقة من خلال التدريب والمباريات. ولم يقتصر النقص الحركي على الرياضيين وحدهم بل على الأغلبية الساحقة من شعبنا الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة الذي كانت اغلبيته تقضي معظم اوقاتها داخل البيوت .

  وحرصا على مصلحة شعبنا فقد دفعني هذا إلى كتابة مقالة في عام 1988 في مجلة البيادر السياسي اشرت بها إلى مخاطر النقص الحركي محذراً لعواقبه ، فالنقص الحركي كان احدى التأثيرات الجانبية للانتفاضة التي لم تحارب من قبل الحركة الوطنية أو القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة أو حتى من كثير من قبل المثقفين والأكاديميين الذين هم أيضا أصبحوا يعانون من هذه الظاهرة. وكان من الممكن إبراز مخاطر النقص الحركي وعمل حملة دعائية للتمرين البدني بين عامة الشعب الفلسطيني ليكون وسيلة صحية هامة في تلك الظروف من أجل تجنب مخاطر النقص الحركي الذي هو عنصراً أساسياً من عناصر نمط الحياة (بالإضافة إلى الغذاء والنوم والتوتر). ولكن في نهاية الأمر فإن هذه الظاهرة والتأثيرات الجانبية الاخرى للانتفاضة لم تنقص من اهميتها كثورة سياسية اجتماعية حقق بها شعبنا نصراً عظيماً.

 

  إن المقاومة التي ينهجها الفلسطينيون هي جزء من حركة التحرر العربية والعالمية  . ورغم وجود السلطة الفلسطينية ومحاولة تهميش منظمة التحرير الفلسطينية ، إلا أن هذه المقاومة تبقى جزء من الثورة الفلسطينية التي وضعت اسسها في الستينيات من القرن الماضي. ولقد بين التاريخ أن الكثير من الثورات وحركات التحرر قد جعلت التمرين البدني ضمن اجندتها الايديوجية وذلك لسببين أولا اعداد المقاتلين بدنيا والاستمرار بالنضال على قناعة منها ان الجسد القوي هو وسيلة هامة لتعزيز هذا النضال ، وثانيا الحفاظ على مستوى صحي أمثل لعامة المواطنين لترويض الجسد والعقل من اجل بناء اجسام صحيحة ومن أجل الحفاظ على وجودهم وصمودهم.

    يعتبر الاهتمام بالصحة وتقوية الجسد احدى المسؤوليات المهمة والملحة لكل الحركات الوطنية والثقافية والعمالية والنسائية والطلابية وغيرها. إن محاربة نمط الحياة غير المنظم والنقص الحركي هو مهمة وطنية تقع على عاتق الجميع ، فعلى الفلسطينيين أن يحافظوا على مستوى صحي امثل من اجل الاستمرارية والمقاومة تحت هذه الظروف القاسية والمعقدة.

  

 


  

No comments:

Post a Comment