عصام الخالدي
لقد مرّ ما يقارب ستة
عشر شهرا منذ تقديم الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم اقتراحًا إلى كونغرس الفيفا في أيار
2024 يدعو به إلى محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها للحقوق الرياضية الفلسطينية
وطردها من الفيفا . ونتيجةً لهذا الاقتراح فقد رفضت الفيفا طلب الاتحاد الفلسطيني
لكرة القدم بالتصويت الفوري على طرد إسرائيل. وكان السبب الرئيسي لرفض الفيفا لهذا
الطلب هو ضرورة إجراء تقييم قانوني مستقل للاقتراح . وكان من المقرر أن يراجع مجلس
الفيفا هذا التقييم في اجتماعه الذي كان مزمع عقده في تموز 2024 ، إلا أنه تم تأجيله عدة مرات ، وكان
التأجيل الأخير حتى الثالث من تشرين الأول 2024. ومن
الجدير بالذكر أنه خلال مؤتمر الفيفا هذا قام الاتحاد الآسيوي لكرة القدم بتأييد اقتراح
الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم تعليق عضوية إسرائيل في الفيفا .
فيما بعد قررت لجنة التأديب التابعة للفيفا
فتح تحقيق في جريمة التمييز "المزعومة" (كما تصفها الفيفا) التي أثارها الاتحاد الفلسطيني
لكرة القدم في شكواه ، والتحقيق في قضية فرق كرة القدم الإسرائيلية
"المزعومة" القائمة على الأراضي الفلسطينية والتي تشارك في الدوري
الإسرائيلي ، وقد تم تكليف لجنة الحوكمة والتدقيق والامتثال التابعة للفيفا بمهمة
إعداد تقرير لمجلس الفيفا بشأن هذه المسألة.
وفي حال اتخذ مجلس الفيفا قرارا بشأن المقترح
الفلسطيني فإنه بلا شك سوف لا يكون سوى إجراء بيروقراطي شكلي يهدف إلى إبعاد اللوم
عن الفيفا ، وإلى امتصاص غضب الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم وتضليل الرأي العام ، وإخفاء
تورط الفيفا في هذه الإبادة الجماعية من خلال موقفها الحيادي تجاه الجرائم
الإسرائيلية. وبالتأكيد سوف يكون اتخاذ الفيفا لهذا القرار نتيجة لضغوط مورست
عليها من الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم والمجتمع الدولي .
والذي يثير السخرية أن أكد مجلس
الفيفا في أيار الماضي أن "كرة القدم يجب ألا تصبح رهينة للسياسة وعليها أن
تبقى دائمًا وسيلةً للسلام ومصدرًا للأمل وقوةً للخير ، وأن تُوحّد الناس بدلًا من
أن تُفرّقهم." وما هذه إلا محاولة للمراوغة والتهرب من مسؤولياتها تجاه قضايا
انسانية عدة والتي منها حرب الإبادة في غزة . فمن المؤكد أن الفيفا على علم تام
بأن الرياضة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسياسة ، فقلما نجد أن الرياضة كانت خارج
السياسة وبمعزل عنها ، فهناك تداخل واضح بين الرياضة والسياسية لدرجة يصعب فصلهما
في كثير من الأحيان ، وخاصة في الحالة الفلسطينية التي بها الرياضة في صراع دائم
مع الاحتلال وتحت ضغوطه.
نرى اليوم أن إسرائيل والفيفا يرددان عبارة
"لا علاقة للرياضة بالسياسة" و"لا ينبغي أن تتواجد السياسة في كرة
القدم." وما هاتان المقولتان في جوهرهما إلا ذريعة، تسعى إسرائيل فقط من
خلالها إلى تبرير انتهاكاتها وممارساتها التعسفية ضد الفلسطينيين ورياضتهم ، بينما
تسعى الأخيرة لتبرير انحيازها الواضح لإسرائيل، من خلال الحفاظ على موقف محايد ،
لأن الموقف "المحايد" هو بحد ذاته تواطؤ مع انتهاكات إسرائيل للرياضة
الفلسطينية ومع ارتكابها الإبادة الجماعية في غزة.
المشكلة ليست في خلط الرياضة بالسياسة ، بل في
التخلي عن المبادئ الإنسانية حفاظًا على المصالح الشخصية ، والتباهي بالقيم
الأخلاقية دون تطبيقها. ومن الواضح أن الفيفا تدعو دائما إلى الالتزام بالقانون واحترامه
، وهي في الوقت نفسه لا تلتزم بالمبادىء والقيم التي تأسست عليها .
رغم هذا الدمار الكبير الذي
لحق بالبنية التحتية للرياضة في قطاع غزة ، للأسف أن الفيفا لم تتواصل مع إدارات
هذه الأندية التي دُمرت ، ولم تصدر أي بيان يدين تدمير البنية التحتية وقتل
الرياضيين الفلسطينيين. وبالتأكيد فإن أي أدانة لممارسات إسرائيل تجاه الرياضة
والرياضيين الفلسطينيين لا يعني خلط الرياضة بالسياسة ، بل يعني التزام الفيفا
بمبادئها وتطبيقها على أرض الواقع. وللأسف
بدل الإدانة وإبداء مواقف أخلاقية تجاه الإبادة الجماعية يرى المراقب لسلوك الفيفا أن رئيسها إنفانتينو يحاول دائما تعزيز علاقته مع إدارة الرئيس ترامب الداعمة
لإسرائيل بشكل يتميز بالتملق والتودد المنفعي الذي لا يثير إلا شعور الاشمئزاز
والغضب ، ويعكس سياسة النفاق التي ينتهجها الغرب بشكل عام.
من الجدير بالذكر أن إسرائيل تشارك حاليًا في تصفيات كأس العالم لكرة القدم التي ستبدأ في عام 2026. وهناك ضغوطات كبيرة على الفيفا وأصوات عديدة تطالبها بطرد إسرئيل ، وقد أطلقت مجموعة من منظمات حقوق الانسان والمجتمع المدني حملة دولية تطالب اتحادات كرة القدم الأوروبية بمقاطعة المنتخب الإسرائيلي ومنع لاعبيه من المشاركة في البطولات المحلية والقارية. وبهذا الصدد فقد دعا تحالف يضم هيئات مناصرة ومجموعات من المشجعين اتحادات كرة قدم أوروبية إلى مقاطعة إسرائيل Soccer Federations: Boycott Israel عبر لوحة إعلانية لاقت إقبالا كبيرا في ميدان تايمز سكوير في مدينة نيويورك ، ليطلقوا بذلك حملة تحت اسم Game Over Israel أو "انتهت اللعبة يا إسرائيل".
أيضا فقد انضم وزير
العدل المغربي السابق مصطفى الرميد مؤخرًا إلى هذه الأصوات المتصاعدة ، حيث أعرب
عن استيائه لتطبيق مبدأ إزدواجية المعايير بسبب طرد الفيفا روسيا فورا بعد غزوها
لأوكرانيا ، بينما الفيفا تتعامل مع المنتخب الإسرائيلي بشكل طبيعي رغم حرب
الإبادة في غزة .
لقد أصبح من الشائع مؤخرا أن يعامل العالم الفرق الإسرائيلة في الملاعب على أنها منبوذة ، فكثير من المشجعين أصبحوا
لا يقفون للنشيد الوطني الإسرائيلي أو يديرون ظهورهم خلاله ، كما أن بعض اللاعبين أصبح يرفض مصافحة اللاعبين الإسرائيليين قبل أو بعد المباراة. وكثير من المباريات كانت
قد اضطرت للتوقف بسبب هتافات ضد الفرق الإسرائيلية.
في مباراة كأس السوبر الأوروبي في أوديني ، إيطاليا، عُرضت لافتة ضخمة
على أرض الملعب قبل بدء المباراة كُتب عليها "أوقفوا قتل الأطفال. أوقفوا قتل
المدنيين". وفي آب ، أعلن الاتحاد النرويجي لكرة القدم (NFF) أنه سيتبرع بأرباح مباراته المقبلة في تصفيات كأس العالم ضد
إسرائيل لجهود الإغاثة الطارئة في غزة.
حاليًا تضغط رابطة مدربي كرة القدم الإيطالية
من أجل تعليق مشاركة إسرائيل في المسابقات الدولية بسبب الحرب في غزة ، فقبل
مباراتي إيطاليا الحاسمتين في تصفيات كأس العالم ضد إسرائيل خلال الشهرين المقبلين
، دعت رابطة مدربي كرة القدم الإيطالية إسرائيل إلى الكف عن ممارساتها الوحشية ، ووجهت
رسالة رسمية إلى الاتحاد الإيطالي لكرة القدم ليتم توجيهها إلى الهيئات الإدارية لكرة
القدم الأوروبية والعالمية تدعو فيها إلى تعليق مشاركة إسرائيل.
وفي لحظة شجاعة تُعلي من شأن مُثُل الرياضة وروح الألعاب الأولمبية كسر
المدرب الإيطالي جينارو غاتوزو صمته ، فخلال خطابه وصف بتأثر بالغ شعوره بالخجل
والألم العميقين لمواجهته فريق لاعبي كرة القدم الإسرائيليين:
"في
هذه الحالة ، نتعامل مع فريق يمثل كيانًا يرتكب إبادة جماعية وحشية ضد شعب بريء.
إنه موقف يُعيد الرياضة إلى جوهر مبادئها: يجب أن تكون الإنسانية دائمًا فوق
المنافسة . إن هدف الرياضة هو تعزيز السلام ، وليس إضفاء الشرعية على جرائم الحرب
أو العنصرية ، فالرياضة في نهاية المطاف جسر للسلام."
ورداً عليه فقد صدر هذا التصريح من احدى القنوات الإسرائيلية:
"في المستقبل ، لن نقبل اللعب مع إيطاليا ،
وإذا وُضعنا في المجموعة نفسها، فسننسحب فورًا. كرامتنا غير قابلة للتفاوض ولا
تُقاس بنقاط المباراة. ما حدث في الملعب لم يكن مجرد خلاف رياضي ، بل كان سلوكًا
غير مقبول ومنافيا للأخلاق ، ولن يقبله أي اتحاد يحترم نفسه. العالم كله ضدنا، ولا
أحد يُقابلنا دون إهانات وألفاظ بذيئة ، وهذا ما يُفقد لاعبينا تركيزهم وينهارون في
المباريات."
نعم العالم ضدكم لأنه في النهاية إسرائيل هي المسؤولة عن هذا الإذلال وهذه الإهانات ، فما تقوم به من إبادة جماعية في غزة وممارسات وحشية في الضفة الغربية هو السبب في إثارة هذا السخط والغضب تجاهها. ودائما ما تبرر إسرائيل هذا الغضب والاحتجاج بمعاداة السامية فهذا هو سلاحها الأكبر والأقوى الآن. هذا في الوقت الذي أصبح به العالم يعي أن انتقاد إسرائيل والصهيونية ليس له علاقة بالعداء للسامية ، بل هو تعبير عن السخط تجاه الجرائم التي ترتكبها إسرائيل.
يكتب أبهيجيت سين غوبتا في
صحيفة "سياسات ديلي": "يُسلط الجدل الدائر حول مشاركة إسرائيل
الضوء على التوتر بين الرياضة والسياسة. صرّح الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بأنه
لا ينبغي معاقبة الرياضيين على أحداث خارجة عن إرادتهم. لكن هذا الموقف تفوح منه
رائحة النفاق وازدواجية المعايير، لأن الفريق الروسي مُنع من المشاركة بسبب حرب
بلاده ضد أوكرانيا".
على مدار العقود الماضية ، تعرضت المجتمعات العربية لحملة انتقادات من
قبل الغرب لعجزها عن تطبيق دساتيرها الخاصة والالتزام بها . أيضا ما زال الغرب يوجه لها الانتقادات لانتهاكاتها لحقوق الإنسان ، بما فيها حقوق المرأة. إلا أن أحداث
غزة تُشير إلى أن مبادئ الغرب المتعلقة بالإنسانية وحقوق الإنسان ، لا تزال ساكنة ومجمدة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وجرائمها. ونتيجةً للأحداث في فلسطين ،
وخاصةً الإبادة الجماعية في غزة ، فقد انكشفت حقائق خفية لم تكن واضحة بشأن قِيَم
الغرب ، وأصبح الكثيرون يُدركون زيف الادعاءات الغربية بشأن الديمقراطية وحقوق
الإنسان.
No comments:
Post a Comment